الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/وقال ـ رحمه الله: وأما مسألة تحسين العقل وتقبيحه، ففيها نزاع مشهور، بين أهل السنة والجماعة من الطوائف الأربعة وغيرهم. فالحنفية وكثير من المالكية، والشافعية والحنبلية، يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، وهو قول الكَرَّامية والمعتزلة، وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين، واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، وكثير من الشافعية والمالكية والحنبلية ينفون ذلك، وهو قول الأشعرية، لكن أهل السنة متفقون على إثبات القدر، وإن الله على كل شيء قدير، خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. والمعتزلة وغيرهم من القدرية، يخالفون في هذا، فإنكار القدر بدعة منكرة، وقد ظن بعض الناس أن من يقول: بتحسين العقل وتقبيحه ينفي القدر، ويدخل مع المعتزلة في مسائل التعديل والتجويز، وهذا غلط بل جمهور المسلمين لا يوافقون المعتزلة على ذلك، ولا يوافقون الأشعرية علي نفي/ الحكم والأسباب، بل جمهور طوائف المسلمين يثبتون القدر، ويقولون: إن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، ويقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأما الإقرار بتقدم علم الله وكتابه لأفعال العباد، فهذا لم ينكره إلا الغلاة من القدرية وغيرهم، وإلا فجمهور القدرية من المعتزلة وغيرهم يقرون بأن الله علم ما العباد فاعلون قبل أن يفعلوه، ويصدقون بما أخبر به الصادق المصدوق من أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، وفي صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض)، وفي لفظ: (ثم خلق السموات والأرض). وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل/أهل النار حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة). والآثار مثل هذا كثيرة. فهذا يقر به أكثر القدرية، وإنما ينكره غلاتهم، كالذين ذكروا لعبد الله بن عمر في الحديث الذي رواه مسلم في أول صحيحه بحيث قيل له: (قبلنا أقوام يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم، يزعمون ألا قدر وإن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برىء منهم، وأنهم منى برآء) ؛ولهذا كفر الأئمة: كمالك والشافعي وأحمد، من قال: إن الله لم يعلم أفعال العباد حتي يعملوها، بخلاف غيرهم من القدرية. والمقصود هنا: أن جماهير المسلمين يخالفون القدرية من المعتزلة وغيرهم، وجماهير المسلمين أيضًا يقرون بالأسباب التي جعلها الله أسبابًا في خلقه وأمره، ويقرون بحكمة الله التي يريدها، في خلقه وأمره، ويقولون: كما قال الله في القرآن حيث قال: /والمقصود هنا: أن مسألة التحسين والتقبيح ، ليست ملازمة لمسألة القدر. وإذا عرف هذا فالناس في مسألة التحسين والتقبيح على ثلاثة أقوال: طرفان، ووسط. الطرف الواحد، قول من يقول: بالحسن والقبح، ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له، ولا يجعل الشرع إلا كاشفًا عن تلك الصفات، لا سببًا لشيء من الصفات فهذا قول المعتزلة ـ وهو ضعيف ـ وإذا ضم إلى ذلك قياس الرب على خلقه، فقيل: ما حسن من المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق، ترتب على ذلك أقوال القدرية الباطلة. وما ذكروه في التجويز والتعديل. وهم مشبهة الأفعال، يشبهون الخالق بالمخلوق، والمخلوق بالخالق في الأفعال، وهذا قول باطل، كما أن تمثيل الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق في الصفات باطل. فاليهود وصفوا الله بالنقائص التي يتنزه عنها، فشبهوه بالمخلوق، كما وصفوه بالفقر والبخل، واللغوب، وهذا باطل، فإن الرب تعالى منزه عن كل نقص، وموصوف بالكمال الذي لا نقص فيه، وهو منزه في صفات الكمال أن يماثل شيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين، فليس له كفؤًا أحد في شيء من صفاته، لا في علمه، و لا قدرته، ولا إرادته، ولا رضاه، ولا غضبه، ولا خلقه، ولا استوائه، ولا إتيانه ، ولا / نزوله، ولا غير ذلك مما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله. بل مذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا ينفون عنه ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يمثلون صفاته بصفات المخلوقين، فالنافي معطل، والمعطل يعبد عدماً. والمشبه ممثل، والممثل يعبد صنمًا. ومذهب السلف إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى: ومن قال: إنه لا يخلق شيئًا بحكمة، ولا يأمر بشيء بحكمة، فإنه لا يثبت إلا محض الإرادة التي ترجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، كما هو أصل ابن كلاب، ومن تابعه، وهو أصل قولي القدرية والجهمية. وأما الطرف الآخر في مسألة التحسين والتقبيح، فهو قول من يقول: / إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام، ولا على صفات هي علل للأحكام، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر، لمحض الإرادة، لا لحكمة، ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر. ويقولون: إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله، وينهي عن عبادته وحده ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش، وينهي عن البر والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفًا عندهم، ولا المنكر في نفسه منكرًا عندهم، بل إذا قال: فهذا القول ولوازمه، هو أيضًا قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع السلف والفقهاء، مع مخالفته أيضًا للمعقول الصريح، فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء، فقال: وعلى قول النفاة: لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء. وبين تفضيل بعضهم علي بعض، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر، وهذا خلاف المنصوص والمعقول. وقد قال الله تعالى: أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل/ على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبًا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا خلاف النص قال تعالى: وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين) ، والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة، ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح، أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم. النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنًا، وإذا نهى/ عن شيء صار قبيحًا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء؛ ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وإن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور، فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب.
/ فأجاب: الحمد لله، نعم إذا أراد العبد الطاعة التي أوجبها الله عليه إرادة جازمة كان قادرًا عليها، وكذلك إذا أراد ترك المعصية التي حرمت عليه إرادة جازمة كان قادرًا على ذلك، وهذا مما اتفق عليه المسلمون وسائر أهل الملل، حتى أئمة الجبرية، بل هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وإنما ينازع في ذلك بعض غلاة الجبرية الذين يقولون: إن الأمر الممتنع لذاته واقع فى الشريعة، ويحتجون بأمره أبا لهب بأنه يؤمن بما يستلزم عدم إيمانه. وهذا القول خلاف ما أجمع عليه أئمة الإسلام، كالأئمة الأربعة وغيرهم، وأئمة الحديث والتصوف وغيرهم، وخلاف ما أجمع عليه أئمة الكلام من أهل النفي والإثبات. فأما إجماع المعتزلة ، ونحوهم على ذلك فظاهر، وكذلك أئمة المتكلمين المثبتة: / كأبي محمد بن كلاب، وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك، وأبي إسحاق الإسفرائيني، والأستاذ أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، وكذلك أبو عبد الله محمد بن كرام وأصحابه: كابن الهيصم، وسائر متكلمي أصحاب أبي حنيفة: كأبي منصور الماتريدي، وغيره وأمثال هؤلاء كلهم متفقون. وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد، كأبي الحسن بن الزاغوني، وإنما نازع في ذلك بعضهم، واتبعه أبو عبد الله الرازي. واحتجاجهم بقصة أبي لهب حجة باطلة، فإن الله أمر أبا لهب بالإيمان قبل أن تنزل السورة، فلما أصر وعاند استحق الوعيد، كما استحق قوم نوح حين قيل له: وقد اتفق المسلمون على أن المصلي إذا عجز عن بعض واجباتها، كالقيام، أو القراءة أو الركوع، أو السجود، أو ستر العورة، أو استقبال القبلة، أو غير ذلك، سقط عنه ما عجز عنه. وإنما يجب عليه ما إذا أراد فعله إرادة جازمة أمكنه فعله، وكذلك الصيام اتفقوا على أنه يسقط بالعجز عن مثل: /الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة؛ الذين يعجزون عنه أداء وقضاء. وإنما تنازعوا هل على مثل ذلك الفدية بالإطعام؟ فأوجبها الجمهور: كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ولم يوجبها مالك، وكذلك الحج: فإنهم أجمعوا على أنه لا يجب على العاجز عنه وقد قال تعالى: بل مما ينبغي أن يعرف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي، لم يكتف الشارع فيها بمجرد المكنة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادرًا على الفعل مع ضرر يلحقه جعل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة: كالتطهر بالماء، والصيام في المرض، والقيام في الصلاة، وغير ذلك تحقيقًا لقوله تعالى: فمن قال: إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه، إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين الذين قال الله فيهم: لكن مع قوله ذلك، فيجب أن تعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإن الله خالق كل شيء فهو خالق العباد، وقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، فهو رب كل شيء ومليكه لا يكون شيء إلا بمشيئته، وإذنه وقضائه وقدره وقدرته، وفعله، وقد جاءت الإرادة في كتاب الله على نوعين: أحدهما: الإرادة الدينية، كما قال تعالى: والثاني: الإرادة الكونية، كما قال تعالى: ومن مواقع الشبهة ومثارات الغلط: تنازع الناس في القدرة هل يجب أن تكون مقارنة للفعل؟ أو يجب أن تكون متقدمة عليه؟ والتحقيق الذي عليه أئمة الفقهاء: أن الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي ـ وهي التي تقدم الكلام فيها ـ لا يجب أن تقارن الفعل، فإن الله إنما أوجب الحج على من استطاعه فمن لم يحج من هؤلاء كان عاصيًا باتفاق المسلمين، ولم يوجد في حقه استطاعة مقارنة، وكذلك سائر من عصى الله من المأمورين المنهيين، وجد في حقه الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي. وأما المقارنة فإنما توجد في حق من فعل، والفاعل لابد أن يريد الفعل إرادة جازمة، وأن يكون قادرًا عليه، وإذا وجد ذلك في حقه وجب وجود الفعل. فمن قال: الاستطاعة هي المقارنة، فهي مجموع ما يحب من الفعل ويدخل في ذلك الإرادة وغيرها وعلى هذا الاصطلاح يقال: إذا لم يرد الفعل، فليس / بقادر عليه، وقد تبين أن مثل هذا النزاع لفظي، فمن فسر عدم القدرة بذلك ظهر مقصوده، فإذا حقق الأمر وقيل: هل يكون العبد إذا أراد ما أمر به إرادة جازمة عاجزًا عنه، تبين الحق وظهر لكل أحد أنه إذا أراد ما أمر به لم يكن عاجزا، بل قادرًا عليه. وأن ما كان عاجزًا عنه إذا أراده فإن الله لم يكلفه إياه، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، أي ما وسعته النفس. ويجب أن يعلم العبد أن عمله من الحسنات هو بفضل الله ورحمته ومن نعمته، كما قال أهل الجنة: وكذلك إضافة السيئات إلى نفسه، هو الذي ينبغي أن يفعله مع علمه، بأن الله خالق كل موجود، من الأعيان والصفات، والحركات، والسكنات، كما قال آدم: وفي الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه مسلم وغيره، عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى: (ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، لم ينقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص البحر إذ يغمس فيه المخيط غمسة واحدة. ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فقد بين هذا الحديث، أن من وجد خيرًا بالعمل الصالح، فليحمد الله، فإنه هو الذي أنعم بذلك، وإن وجد غير ذلك إما شرًا له عقاب، وإما عبثًا / لا فائدة فيه. فلا يلومن إلا نفسه، فإنه هو الذي ظلم نفسه، وكل حادث فبقدرة الله ومشيئته، وكذلك في سيد الاستغفار الذي رواه البخاري، وغيره عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الاستغفار، أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة). قوله: (أبوء لك بنعمتك علي) يتناول نعمته عليه من الحسنات، وغيرها، وقوله: "وأبوء بذنبي" اعتراف منه بذنبه. وهذه الطريقة هي طريقة المؤمنين. ومن عداهم ثلاثة أصناف: فإن القسمة رباعية. قسم يجعلون أنفسهم هي الخالقة المحدثة للحسنات والسيئات، وإن نعمة الله الدينية على المؤمن والكافر سواء، وأنه لم يعط العبد إلا قدرة واحدة تصلح للضدين، وليس بيد الله هداية خص بها المؤمن، أو تطلب منه بقول العبد: وقسم يسلبون العبد اختياره وقدرته، ويجعلونه مجبورًا على حركاته /من جنس حركات الجمادات، ويجعلون أفعاله الاختيارية والاضطرارية من نمط واحد حتى يقول أحدهم: إن جميع ما أمر الله به ورسوله فإنما هو أمر بما لا يقدر عليه، ولا يطيقه، فيسلبونه القدرة مطلقًا؛ إذ لا يثبتون له إلا قدرة واحدة مقارنة للفعل، ولا يجعلون للعاصي قدرة أصلا. فهذه المقالات وأمثالها من مقالات الجبرية القدرية الذين أنكر قولهم ـ كما أنكروا قول الأولين ـ أئمة الهدى، مثل عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري، ومحمد بن الوليد الزبيدي، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن محمد بن حنبل وغيرهم. فإن ضموا إلى ذلك إقامة العذر للعصاة بالقدر، وقالوا: إنهم معذورون لذلك لا يستحقون اللوم والعذاب، أو جعلوا عقوبتهم ظلمًا، فهؤلاء كفار، كما أن من أنكر علم الله القديم من غلاة القدرية فهوكافر. وإن جعلوا ثبوت القدر موجبًا ، لسقوط الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، كفعل المباحية فهؤلاء أكفر من اليهود والنصاري من جنس المشركين، الذين قالوا: وأما القسم الرابع: فهو شر الأقسام كما قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي. قال: أنت عند الطاعة قدري، وأنت عند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فهؤلاء شر أتباع الشيطان، وليس هو مذهبًا لطائفة معروفة، ولكن هو حال عامة المحلولين عن الأمر والنهي، إن فعل طاعة أخذ يضيفها إلى نفسه ويعجب حتى يحبط عمله، وإن فعل معصية أخذ يعتذر بالقدر ويحتج بالقضاء، وتلك حجة داحضة، وعذر غير مقبول. وتراه إذا أصابته مصيبة بفعل العباد أو غيرهم لا يستسلم للقدر، وتراه إذا ظلم نفسه أو غيره احتج بالقدر ويقول: العبد مسكين لا قادر ولا معذور ويقول: ألقاه في البحر مكتوفًا وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء وإن ظلمه غيره ظلمًا دون ذلك أو توهم أنه ظلمه أحد، سعى في الانتقام من ذلك بأضعاف ذلك، ولا يعذر غيره بمثل ما عذر به نفسه من القدر، وهما سواء، فهذه الجمل يجب اعتقادها. وأما الكلام على الحقيقة الموجبة لإضافة الذنوب إلى العبد مع عموم الخلق / وفي سرد وقوع هذه الشرور، في القدر، وأنه مع ذلك لم يضف إلى الله في كتابه الأعلى أحد وجوه ثلاثة: إما على طريق العموم، كقوله تعالى: وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله تعالى: وإما أن يحذف الفاعل كقول الجن: والكلام على أن أسماء الله الحسنى لابد أن تتضمن إضافة الخير، والشر داخل في مفعولاته، كقوله تعالى:
/ يأيها الحـــبر الـذي علمــــــــه ** وفضله في الناس مذكـور كيف اختيـــار العبــد أفعالــــه ** والعبد في الأفعال مجبـور لأنهم قد صرحـــوا أنـــــــــه ** على الإرادات لمقســـــور ولم يكـــــــن فاعـــل أفعــاله ** حقيقة والحكــــم مشـهور ومن هنا لم يكن للفعــــل فـي ** ما يلحق الفاعل تأثــــــير وما تشـــــاؤون دليــــل لــــه ** في صحة المحكى تقريـــر وكـل شيء ثم لـو سلمت لـــم ** يك للخالق تقديــــــــر أو كان فـاللازم من كونــــــــه ** حدوثه والقول مهجـــور ولا يقال: علم الله ما يختـــــار ** فالمختار مسطـــــــــور /والجبر ـ إن صح ـ يكن مكرها ** وعندك المكره معـــذور نعم ذلك الجبر كنـت أمـــــرءًا ** له إلى نحوك تشمـــــير سيقمــن الشـــوق ولكنــــني ** تقعدني عنك المقاديــــر فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أصل هذه المسألة: أن يعلم الإنسان أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد وغير أفعال العباد . وأنه ـ سبحانه ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لايمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادر عليه. وأنه سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر آجالهم وأرزاقهم، و أعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، /وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون. وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي مستأنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة. معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم، وأنكروا مقالتهم، كما قال عبد الله بن عمر ـ لما أخبر عنهم ـ إذا لقيت أولئك فأخبرهم: إني برىء منهم، وإنهم برآء مني، وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين، فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة: كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون. ثم كثر خوض الناس في القدر، فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق، لكن ينكرون عموم مشيئة الله، وعموم خلقه وقدرته، ويظنون أنه لا معني لمشيئته إلا أمره، فما شاءه فقد أمر به، ومالم يشأه لم يأمر به، فلزمهم أن يقولوا: إنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وأنكروا أن / يكون الله تعالى خالقًا لأفعال العباد، أو قادرا عليها. أو أن يخص بعض عباده من النعم بما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له. وزعموا أن نعمته ـ التي يمكن بها الإيمان والعمل الصالح ـ على الكفار كأبي لهب، وأبي جهل، مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بمنزلة رجل دفع لأولاده مالا فقسمه بينهم بالسوية، لكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة، وهؤلاء أحدثوا أعمالهم الفاسدة، ومن غير نعمة خص الله بها المؤمنين وهذا قول باطل. وقد قال تعالى: وقد أمرنا الله أن نقول في صلاتنا:
وسلف الأمة وأئمتها متفقون ـ أيضًا ـ على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده، ومن احتج بالقدر على ترك مأمور، أو فعل محظور أو دفع ما جاءت به النصوص في الوعد والوعيد، فهو أعظم ضلالاً، وافتراء على الله، ومخالفة لدين الله من أولئك القدرية، فإن أولئك مشبهون بالمجوس، وقد جاءت الآثار فيهم أنهم مجوس هذه الأمة، كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره من السلف، وقد رويت في ذلك أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه أبو داود والترمذي، ولكن طائفة من أئمة الحديث طعنوا في صحة الأحاديث المرفوعة في ذلك، وهذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا أن القدرية النافية يشبهون المجوس في كونهم أثبتوا غير الله، يحدث أشياء من الشر بدون مشيئته وقدرته وخلقه. /وأما المحتجون على القدر بإسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد، فهؤلاء يشبهون المشركين الذين قال الله فيهم: فهؤلاء المحتجون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذبين للرسل، وهم أسوأ حالاً من المجوس، وهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد. ومن هؤلاء من يظن أن آدم احتج على موسى بالقدر على الذنب، وأن ذلك جائز لخاصة الأولياء المشاهدين للقدر، وهذا ضلال عظيم، فإن موسى إنما لام آدم على المعصية التي لحقت الذرية بسبب أكله من الشجرة، فقال: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة)؟ والعبد مأمور عند المصائب أن يرجع للقدر، فإن سعادة العبد أن يفعل المأمور، ويترك المحظور ويسلم للمقدور، قال الله تعالى: / فالسعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب. كما قال تعالى: وهؤلاء لا يحتجون بالقدر إلا إذا كانوا متبعين لأهوائهم بغير علم، ولا يطردون حجتهم، فإن القدر لو كان عذرًا للخلق للزم ألا يلام أحد ولا يذم ولا يعاقب لا في الدنيا والآخرة، ولا يقتص من ظالم أصلا، بل يمكن الناس أن يفعلوا ما يشتهون مطلقًا، ومعلوم أن هذا لا يتصور أن يقوم عليه مصلحة أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هو موجب الفساد العام وصاحب /هذا لا يكون إلا ظالمًا متناقضًا، فإذا آذاه غيره أو ظلمه طلب معاقبته وجزاه، ولم يعذره بالقدر، وإذا كان هو الظالم احتج لنفسه بالقدر، فلا يحتج أحد بالقدر لاتباع هواه بغير علم، ولا يكون إلا مبطلاً لاحق معه، كما احتج به المشركون فقال تعالى: ولهذا كان هؤلاء المشركون المحتجون بالقدر، إذا عاداهم أحد قابلوه وقاتلوه وعاقبوه، ولم يقبلوا حجته إذا قال: لو شاء الله ما عاديتكم، بل هم دائمًا يعيبون من ظلم واعتدى ولا يقبلون احتجاجه بالقدر، فلما جاءهم الحق من ربهم، أخذوا يدافعون ذلك بالقدر، فصاروا يحتجون على دفع أمر الله ونهيه بما لا يجوزون أن يحتج به عليهم في دفع أمرهم ونهيهم، بل ولا يجوز أحد من العقلاء أن يحتج به عليه في دفع حقه، فعارضوا ربهم ورسل ربهم بما لا يجوزون أن يعارض به أحد من الناس، ولا رسل أحد من الناس، فكان أمر المخلوق ونهيه وحقه أعظم على قولهم من أمر الله و نهيه وحقه على عباد الله، وكان أمر الله ونهيه وحقه على عباده أخف حرمة عندهم، من أمر المخلوق ونهيه وحقه على غيره، فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، كما ثبت في الصحيحين عن معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: (يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حقه / عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ماحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حقهم عليه ألا يعذبهم). فكان هؤلاء المشركون من أعظم الناس جهلاً وعداوة لله ورسوله، فاحتجوا على إسقاط حقه وأمره ونهيه بما لا يجوزون ـ لا هم ولا أحد من العقلاء ـ أن يحتج به على إسقاط حق مخلوق، ولا أمره ولا نهيه. وهذا، كما جعلوا لله شركاء وبنات، وهم لا يرضى أحدهم أن يكون مملوكه شريكه، ولا يرضى البنات لنفسه، قال تعالى: وقوله تعالى: وبين أن قول الفلاسفة ـ القائلين بقدم العالم، وأنه صادر عن موجب بالذات متولد عن العقول والنفوس الذين يعبدون الكواكب العلوية ويصنعون لها التماثيل السفلية، كأرسطو وأتباعه ـ أعظم كفرًا وضلالا من مشركي العرب الذين كانوا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، بمشيئته وقدرته، ولكن خرقوا له بنين وبنات بغير علم وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا. وكذلك المباحية الذين يسقطون الأمر والنهي مطلقًا، ويحتجون بالقضاء والقدر أسوأ حالاً من اليهود والنصارى ومشركي العرب، فإن هؤلاء مع كفرهم يقرون بنوع من الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولكن كان لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، بخلاف المباحية المسقطة للشرائع مطلقًا، فإنما يرضون بما تهواه أنفسهم، ويغضبون لما تهواه أنفسهم، لا يرضون لله، ولا يغضبون لله، ولا يحبون لله، ولا يبغضون لله، ولا يأمرون بما أمر الله به، ولا / ينهون عما نهى عنه، إلا إذا كان لهم في ذلك هوى، فيفعلونه لأجل هواهم لا عبادة لمولاهم. ولهذا لا ينكرون ما وقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان، إلا إذا خالف أغراضهم، فينكرونه إنكارًا طبيعيًا شيطانيًا لا إنكارًا شرعيا رحمانيا، ولهذا تقترن بهم الشياطين إخوانهم فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، وقد تتمثل لهم الشياطين وتخاطبهم وتعينهم على بعض أهوائهم، كما كانت الشياطين تفعل بالمشركين عباد الأصنام، وهؤلاء يكثرون في الطوائف الخارجين عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة الذين يسلكون طرقًا في العبادات والاعتقادات مبتدعة في الدين ولا يتحرون في عباداتهم، واعتقاداتهم موافقة الرسول والاعتصام بالكتاب والسنة، فتكثر فيهم الأهواء والشبهات، وتغويهم الشياطين، وتصير فيهم شبهة من المشركين بحسب بعدهم عن الرسول. وكما يجب إنكار قول القدرية المضاهين للمجوس، فإنكار قول هؤلاء أولى، والرد عليهم أحرى، وهؤلاء لم يكونوا موجودين في عصر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، فإن البدع إنما يظهر منها أولا فأولاً الأخف فالأخف كما حدث في آخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والشيعة، ثم في آخر عصر الصحابة، بدعة المرجئة والقدرية، ثم في آخر عصر التابعين بدعة الجهمية معطلة الصفات وأما هؤلاء المباحية المسقطون للأمر والنهي محتجين على ذلك بالقدر، فهم شر من جميع هذه الطوائف وإنما حدثوا بعد هؤلاء كلهم.
|